خصائص العقيدة الأشعرية في المغرب



    إن المتتبع للحضور الأشعري في الغرب الإسلامي سيميز بين ثلاثة أطوار أو مراحل أساسية مر بها هذا الحضور، وكل مرحلة تميزت بطابع خاص على امتداد فترة وجودها..
    في المرحلة الأولى لم يرق الوجود الأشعري إلى مستوى تكوين مدرسة أشعرية مغربية، وكل ما كان هناك هو تمثلات فردية لهذا المذهب ليس إلا...
    أما المرحلة الثانية، وهي مرحلة ترسيم المذهب، ففيها شهد هذا المذهب انتشارا كبيرا وتغلغلا واسعا أدى إلى تعميمه وترسيمه. وفي هذه المرحلة بدأت ثوابت هذا المذهب بصيغتها المغربية تتشكل في ضوء الملابسات السياسية، والشروط الموضوعية والنظرية التي كان يعرفها الغرب الإسلامي وبخاصة في غضون تأسيس دولة الموحدين، لمواجهة العقيدة التي كانت سائدة زمن المرابطين (عقيدة أهل التسليم والتفويض) التي كانت مذهبا رسميا زمن الدولة المرابطية وقبلها..
    فكان -والحال هذه -أن انتقى هؤلاء الأشاعرة من بين آراء الأشاعرة رأيا يرى أن علوم النظر واجبة شرعا وجوبا عينيا، وأنها شرط من شروط الإيمان، يصح بوجودها وينعدم ويبطل بانعدامها.
    وفي هذا الاختيار دفاع عن المذهب الأشعري وتكريس له دون سواه. لأن علوم النظر في هذا السياق لم تكن تعني شيئا آخر غير مذهب "أهل الحق" فكان هذا ثابتا مركزيا ميز المذهب الأشعري بالغرب الإسلامي.
    والجانب السياسي في العقيدة الأشعرية- زمن الموحدين- يأخذ طابع التسامح في شرط القرشية في الإمامة، ويكشف عن اجتهاد هؤلاء في تجاوز الإحراج السياسي الذي كان يفرضه عليهم كل خوض فيه إلى أن تم إقصاؤه من مباحث علم الكلام في المرحلة الأخيرة.
    وإذا كنا نلحظ بالفعل تطورا ملحوظا كما وكيفا، ، فإنه في المرحلة السنوسية يستحيل إسقاط مفهوم التطور عليها مثلما لاحظنا في المرحلتين السابقتين لأنها مرحلة تدهور وتراجع، لكن هذا لم يمنع من وجود تطور كمي وتراكم لمؤلفات عقدية وانشغالات واسعة بهذا الميدان، مما حافظ على استمرارية هذا المذهب وتكريسه مذهبا رسميا للبلاد إلى يومنا هذا.
    وهناك جوانب تميز بها حضور علم الكلام الأشعري في الغرب الإسلامي، والكشف عن الدواعي الكامنة وراء ذلك. ومن ذلك أنه نظرا لارتباط المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي في بداياته الأولى بالمشروع الإصلاحي السياسي والديني، فقد وقعت في هذا المذهب انتقائية واضحة حكمت وجوده واستمراره في هذه البقعة من العالم الإسلامي. وقد قام هؤلاء المفكرون الأوائل بعملية انتقاء داخل هذا المذهب للآراء والاختيارات التي تناسب مواقعهم الإيديولوجية، والشروط الموضوعية التي عرفوها في صراعهم الإيديولوجي.
    فعلى طول مرحلة الفكر الأشعري بالغرب الإسلامي نلحظ شبه إجماع على إيجاب النظر واعتباره من فروض الأعيان، ونبذ التقليد في العقائد نبذا صارما، واعتبار المقلدين كفارا، وما ذلك إلا لأن الصراعات النظرية والسياسية التي دارت بين مفكري الأشاعرة ومفكري أهل التسليم والتفويض كانت قد عرفت اصطدامات دموية عنيفة. فقد وجد المذهب الأشعري في مواجهته فكرا عقديا منظما يصادر النقل، وعلى ما كان عليه السلف الصالح، وفي نفس الوقت متحكما ومتمكنا من الساحة لاسيما في أوساط عوام الناس.
    وكان من شأن هذا الوضع أن دفع الأشاعرة إلى التزام اختيار أشعري يقول به بعض أئمة الأشاعرة في المشرق وهو إلزام العوام بعلم الكلام وإجبارهم على النظر واعتبار ذلك شرطا من شروط إيمان الفرد، فجعلوه ثابتا مركزيا وأساسيا في المذهب.
    كما كانت عملية انفصال الخلافة الموحدية عن الخلافة العباسية لأول مرة في تاريخ الغرب الإسلامي، وتكوين خلافة مغربية مستقلة حدثا سياسيا بارزا وخطيرا، لا سيما حينما تولى الحكم أمراء انعدم فيهم شرط القرشية، أو تحوم حوله عظيم الشكوك، وكان من نتائج هذا كله أن أصبح موضوع الإمامة في العقائد الأشعرية مدعاة لإحراج جمع كبير من المفكرين ودافعا لتساهلهم في هذا الشرط والتقليل من أهميته.
    ويبدو لنا أن موضوع الإمامة قد تم فصله عن العقائد في المرحلة السنوسية ليشكل بذلك مبحثا خاصا سموه "مبحث الإمامة" هو أقرب إلى السياسة منه إلى العقائد، وهذا ما يبرر وجود كتابات سياسية في مبحث الإمامة على شكل رسائل متخصصة في هذا الموضوع ومركزة عليه بصفة خاصة.
    أما موضوع النبوة فإنه نظرا للواقع النظري المغربي الذي كان واقعا بعيدا عن أفكار من عرف بتاريخ الإسلام بمنكري النبوات والمعجزات، أو بملاحدة الإسلام، أمثال أبي عيسى الوراق، وابن الراوندي، وغيرهما، فلم يثبت أن ظهر في الفكر المغربي عبر تاريخه الطويل من اعتنق هذه الأفكار أو رددها، وكل ما ثبت أن أفكار منكري النبوات هذه استمرت في المشرق تخبو مرة وتظهر أخرى، حتى حدود القرن السادس الهجري، وتمارس تهديدها على عقائد المسلمين، وتقض مضاجع من حملوا راية الدفاع عن هذه العقائد هناك. فكان عليهم إذن أن يتسلحوا للدفاع عن عقائدهم فيدفعوا أفكار هؤلاء وينتقدوها، فظهر لذلك موضوع النبوات في عقائد متكلمي المشرق وأشاعرتهم بخاصة مطبوعا بطابع الشعور بالتهديد. فكثرت فيه الاستدلالات على صحة النبوة والمعجزات، وطال فيها الحديث لكن في الغرب الإسلامي الذي لم يشهد هذا النوع من التهديد، ولم يعرف ذلك النوع من التفكير، فقد ظل موضوع النبوة موضوعا يدخل في إطار ما ينبغي اعتقاده والتصديق به، بعيدا عن المسحة التي طبع بها في المشرق، فلا نعثر على تلك الغزارة والإطناب في تحليله،اللهم إلا كتابات القاضي أبي بكر بن العربي الذي عاصر منهم من عاصر واحتك ببقايا ممثليهم في المشرق.
    أما ما يتعلق بالسلطة المرجعية التي هيمنت في كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث فقد انتهينا إلى أن المرحلة الأولى كانت مرحلة هيمن فيها تأثير الباقلاني فكانت المرجعية الباقلانية هي مرجعية هذه المرحلة. ومرد ذلك في نظرنا إلى أن جمعا كبيرا من أولئك الذين مثلوا مرحلة الدخول كانوا معاصرين للباقلاني ارتبطوا به بأحد الروابط والجسور، بحيث كان معظمهم تلاميذه أخذوا عنه، واحتكوا بفكره احتكاكا مباشرا، فكان ترديدهم لهذا المذهب انطلاقا من رؤية باقلانية واضحة.
    أما المرحلة الثانية فقد ظهرت فيها مرجعية الإمام الجويني فكانت بذلك أفكار هذا الرجل بارزة السلطان، واضحة التأثير على معظم من تحرك في مجال علم الكلام في هذه المرحلة. وكان من أبرز مظاهر هذه المرجعية أن لاقى كتاب الإرشاد للجويني إقبالا منقطع النظير في هذه المرحلة حيث تلقاه مفكرو هذه المرحلة بالسير على نهجه وبكثرة الشروح عليه. وكل ذلك تأكيدا على مدى ما وصلت إليه هيمنة فكر إمام الحرمين الجويني على هذه المرحلة.
    أما المرحلة الثالثة والأخيرة، أي المرحلة السنوسية، فهي وإن كانت مرحلة تراجع وتقهقر باعتبار معين فإنها مرحلة عرفت صعود نصوص من مثلوا الفكر الأشعري في المشرق من متقدميهم ومتأخريهم إلا أن الطابع الذي ميزها هو الطابع المنطقي في التأليفات العقدية، وفي المساجلات الكلامية، وفي الأجوبة والتعليقات حتى أضحى الخلط بين ما هو منطقي وما هو عقدي ميزة ميزت هذه المرحلة لا يقوى أحد على إنكارها. لكننا مع ذلك لا نجد الخلط بين المفاهيم السلفية وبين المفاهيم الكلامية الأشعرية، كما نجده عند متأخري الأشاعرة وبخاصة عند الفخر الرازي بل إننا نجد التصريح بذلك واضحا في كتابات هذه المرحلة.
    وهناك نتيجة لاحظناها ونحن نتتبع الوجود الأشعري بالغرب الإسلامي تبدت في أن معظم أولئك الذين مثلوا الفكر الأشعري، ونهضوا  لنشره وترسيمه وتغلغله بطلائع الأدوار كانوا متصوفة اشتهروا بتقواهم وورعهم وزهدهم وتجلى ذلك في الكرامات التي ظهرت عليهم، لكنهم لم يخلطوا تصوفهم هذا بميدان علم الكلام، ولا أظهروا فيه طابعهم الصوفي، أو ما يقرب من ذلك، فكان بين اختيارهم الصوفي واختيارهم العقدي فصلة واضحة، وحاجز ملموس يمنع التداخل بين الفكرين ويميز بين ما هو طرقي/صوفي وبين ما هو عقدي/ كلامي.
    صحيح أن بعض مفكري الأشاعرة هنا لم تكن له صلات تذكر بالتصوف فكرا وتمدرسا، بل ربما وقف مواقف عدائية من بعض غلاة المتصوفة المفرطين، وتحفظ منهم تحفظا كبيرا بسبب الغلو والإفراط، واحترز من خطابهم وربما أحيانا ألف في الرد عليهم وليس على التصوف ذاته كمشرب روحي ومنهج إسلامي أصيل.
    أضف إلى كل ما سبق أن الحضور الطويل للعقيدة الأشعرية في هذه المنطقة باعتبارها العقيدة الرسمية، جعل مضامينها تؤثر بكيفية أو بأخرى في مجموع مناحي الحياة الشفوية، فقد تشربت هذه العقيدة وتمثلتها من خلال الأدعية، والحكم، والأمثال السائدة، فعكست جميعها فكرة القضاء والقدر، والقدرة المطلقة للذات الإلهية، وإمكانية رؤية الله، وأمور أخرى.
    وفي السياسة، ترسخت في الثقافة الشفوية فكرة أشعرية واضحة وهي: "أن السلطان ظالم ولا الرعية سائبة" أي يهون الصبر على الإمام الجائر أمام التسيب والفوضى، وهي فكرة أشعرية واضحة.
    وقد أسهمت العقيدة الأشعرية في تكوين رؤية الإنسان المغربي إلى الكون والحياة، حيث تمكنت من أن تمثل عند الإنسان العادي رؤية إلى العالم معينة، وكذا إلى الله، وإلى علاقته بالعالم.

    تعليقات

    المشاركات الشائعة من هذه المدونة

    إن كانت البردة الشريفة للبوصيرى شركا كما يدعى الوهابية فيكون علماء الأمة كلهم مشركون وهذا هو الدليل

    اشعرية الحافظ ابن حجر العسقلانى

    أقوال الامام النووى فى التبرك والتوسل